كان عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي (1936-2014)، رحمه الله، مؤرخ حضرموت الأول وذاكرتها المشرئبة على الماضي والحاضر معاً. وبرغم اشتهاره مؤرخاً، فإنه لم يكن كذلك فحسب، بل كان معلماً ومربياً، وفوق ذلك كان أديباً لامعاً، غير أنه كان مخلصاً للتاريخ أكثر من إخلاصه للأدب، بالرغم من أنه كان – كما يؤكد ذلك نقاد – مشروعاً سردياً حضرمياً كبيراً، لكن رؤيته العميقة الرامية إلى الإصلاح كانت قد أوقفته على صراط التاريخ؛ لمعرفته بأهميته. لقد كان مهموماً بتاريخ حضرموت، أهم حواضر اليمن قديماً وحديثاً، على شتى الأصعدة، تاريخياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً وجغرافياً أيضاً.
كان لحضوره هيبة وتقدير كبيران من قبل الحاضرين، وكان لكلمته القول الفصل إذا ما أشكل على المتحدثين وتشعبت بهم السبل. فهو المفكر المخلص والاجتماعي المحبوب والمرجعية الثقافية التي لا تُبارى.
بعد مضي أربع سنوات على رحيله، ما يزال مثقفو وأدباء ومؤرخو حضرموت يتحسسون صدورهم لتلمس دفء الملاحي وقوة حضوره، فيجزمون – كما يقول الأديب فيصل العجيلي باختزال – أن «حضوره ما يزال يحتفي بغيابنا»؛ فهو الحاضر الممتد في قلوب الناس، وفي صفحات المثقفين وأقلام المؤرخين ومخيال الأدباء… إنه الكنز القابع في ضفاف الذاكرة وشعابها.
عن الملاحي الأديب والسارد خصوصاً، يتحدث الناقد الدكتور، طه حسين الحضرمي، أستاذ الأدب والنقد في جامعة حضرموت، إلى «العربي»، متناولاً بداياته القصصية وطرائق سروده للتاريخ ومتعلقاته، مؤكداً – إلى جوار ذلك – أهميته التاريخية، وأسبقية السارد على المؤرخ، وتقديمه التاريخ بطرائق السرد.
يرى الحضرمي «أن الملاحي كان مشروعاً سردياً حضرمياً باقتدار، لولا الهموم الوطنية التي تناوشته من كل جانب، فسعى سعيَه الدؤوب إلى ترسيخ كيان ثقافي متميز لحضرموت خاصة ولليمن عموماً، ولاسيما في المجال التاريخي الأنثربولوجي والسوسيولوجي، وفي علمي الفلك والجغرافيا، ثم في جهوده الرائدة في الملاحة البحرية»، مضيفاً أن الملاحي «كان له حضور متميز في البرامج الإذاعية إعداداً وتقديماً، وحضور في المشهد الثقافي الأدبي من خلال مشاركاته الأدبية في الداخل والخارج. كما كان له حضور بهي في المجال الإبداعي (قصة ومسرحاً)».
فالقصة، كما يوضح الحضرمي، «لم تكن من أولويات الملاحي الكتابية، بيد أنها كانت من مميزاته الكتابية الإبداعية الساعية – في عمومها – إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي، وشكّلت منطلقاً من منطلقات اختياراته الإبداعية. إن له سبقاً في الإبداع السردي. لقد بدأ بكتابة القصة مبكراً، بدءاً من محاولاته المبكرة حين كتب محاولته القصصية الأولى «اليتيم في أرض البخلاء» التي شارك بها في مسابقة القصة في المدرسة الوسطى وهو في أولى متوسطة، فحاز على المركز الثاني، لِيَلِج من خلالها عوالم السرد الساحرة اللا متناهية بغاباتها المتشعبة. وذلك في تباشير أعماله السردية المنشورة، وأعني بها قصة (نيكيتا أيوب) التي نُشرت في صحيفة (الطليعة) العدد (12) سنة 1959م».
ويتطرق الحضرمي إلى ما أثاره الملاحي في قصة «الأيُّ شيءٍ»، والتي نشرها في صحيفة الشرارة في عام 1988م، من جدل مع اللغوي عبد الله بابعير، الذي كان المدقق اللغوي للصحيفة حينها، وكيف أدار الملاحي ذلك الجدل باقتدار ووعي. إذْ «كان النقاش حول مدى صحة تركيب عنوان القصة (الأي شيء) لغوياً، فكان بابعير لا يرى صحة هذا التركيب لغوياً، أما الملاحي فقد دافع عن هذا التركيب بحماسة منقطعة النظير وبقدرة جدالية لافتة للنظر أمام مختص في هذا المجال». ويؤكد الحضرمي اتفاقه مع الملاحي فنياً بعد مضي زمن طويل على ذلك الجدل قائلاً: «مهما يكن من أمر ذلك الجدال، أراني اليوم أذهبُ مذهبَ الملاحي سردياً وليس لغوياً. فلو نظرنا إلى سياق القصة بوصفها مساراً سردياً متماسكاً لرأينا منطقية هذا التركيب».
ويستطرد الحضرمي حول ما تمثله قصة «الأيُّ شيءٍ» بالنسبة إلى مسيرة الملاحي الإبداعية، فهي تمثّل «انعطافة إبداعية في مسيرة الملاحي السردية لامتطائه مضامين جديدة لها صلة بالرؤية الإبداعية، وذلك بالنظر إلى الإبداع الفني في عمومه بوصفه عملاً مقصوداً حتى وإن جاء نتيجةً للإلهام؛ انبثاقاً من الإيمان بأن الأدب ضرورة ملحة من ضرورات الحياة».

وعن دور الملاحي الاجتماعي ومكانته العلمية، يقول الدكتور عبد الله الجعيدي، أستاذ التاريخ في جامعة حضرموت، «إن الأستاذ عبد الرحمن الملاحي قامة علمية سامقة وشخصية اجتماعية لها مكانها اللائق في المجتمع»، مؤكداً أننا «أمام شخصية إيجابية في مجتمعها»، مشيراً إلى أن غياب الملاحي قد ترك «فراغاً لافتاً» في المشهد الثقافي والمجتمعي الحضرمي. ويعتبر أن «المهم في شخصية الملاحي هو روحه العلمية السامية التي أسست بطريقة غير مباشرة مساراً ثقافياً واسعاً لدى تلاميذه، حتى جعلت منهم من يحمل الراية من بعده». ويتحدث الجعيدي عن انفتاح الملاحي على آفاق متعددة، إذ «لم يكن بالمثقف المنغلق على ذاته»؛ لهذا فهو «مستمر في تلاميذه ومحبيه»، و«ستظل إسهاماته العلمية إضاءات حاضرة تبحث مع الناس سبيلاً للخروج من المآزق الدائرة».
ويوغل الدكتور سعيد سالم الجريري، رئيس تيار «مثقفون من أجل جنوب جديد»، في حديثه عن المعلم المتعدد والمتجدد عبد الرحمن الملاحي، الذي «عاش ليروي للأجيال فصولاً في الحياة والتراث والتاريخ والأدب، منذ أن اتخذ قراره بالاشتغال بالشأن الثقافي بعد رحلة ذات معانٍ قطع أشواطها معلماً ينشر النور في مناطق مختلفة من حضرموت، وتجربة في العمل الإداري والإنتاج الثقافي والمسرحي في عدن وحضرموت».
ويؤكد – في حديث المدرك جيداً للمكانة التي اضطلع بها الملاحي في سبيل التنوير – أنه لا يبالغ إن زعم أن الملاحي ركن شامخ إلى جوار آخرين في الأدب والفن في الشحر تحديداً، فـ«الملاحي وبامطرف والمحضار وسعيد عبد النعيم هم أركان الشحر الأدبية والفنية الأربعة الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين».
وبرغم اجتماعهم في سمة «الشحرية»، إلا أن الجريري يعتقد أن «لكل منهم شخصيته المتميزة»، لافتاً، في الوقت نفسه، إلى «أنهم جميعاً يشتركون في صفة جامعة هي ما أسميها (الشحرية)، التي إذا مس المرء منها جانب، تناسلت في يديه وشفتيه ومضات سرعان ما ينداح نورها، حتى يقول القائل إن لبامطرف مثلاً منهجه في كتابة التاريخ وتوثيقه أقرب إلى الإبداع الأدبي (الشهداء السبعة مثالاً)، وإن للمحضار فلسفته الشعبية في اقتناص شوارد اللهجات بين البوادي والحواضر فإذا هي تشكيل جديد جميل يسم الأغنية والقول المحضاري بما أسميه النص المحضاري الذي يفيض على الآخرين…
وإن لسعيد عبد النعيم لفتاته وهنكه الخاص الذي يوازن بين شعبية الأداء الموازي للرقصة وإيقاعية الشعر المغنى، في ما أسميه نعيميات اللون الحضرمي في الغناء، وإن للملاحي فرادته في الاتجاه شرقاً يرود مناطق بكر لم تمسسها أيدي الباحثين والمشتغلين بالتراث المشقاصي خاصة، فهو رائد دراساته الأول، حتى لكأنه فطن بحس الباحث الناقد العاشق إلى أن مجاهيل تلك المنطقة هي التي تمنحه تميز المنقّب عن الخصوصية الضاربة في أعماق الهوية، تلك التي يغدو معها التأليف الأول مصدراً غير متكئ على مصادر مدونة أو مراجع متداولة (الختان مثلاً)».
والملاحي ليس بالنسبة إلى الجريري «باحثاً وأديباً فقط، ولكنه مثال في قيم عديدة، أولها البساطة والتواضع، والجدية، والصبر، والوطنية الحقة، وعدم الانفصام في الشخصية بين ما هو ثقافي وما هو اجتماعي أو سياسي، فثمة مواءمة استطاع الملاحي أن يخلقها بين كل تلك الصفات، لنرى فيه صورة عبد الرحمن الملاحي الذي لا يواريه الغياب، ويلفنا بعده ألم وحزن شديدان».
ويختتم الجريري حديثه بالعودة بالذاكرة إلى أول لقاء جمعه به، وهو اللقاء الذي اكتشف بعده اختلاف الراوي والمروي في الزمان والمكان اللذين اجتمعا في إطارهما. يقول إن «مما يشتعل في الذاكرة أول لقاء لي به أيام كنت في رئاسة جمعية اللغة العربية بكلية التربية بالمكلا في منتصف الثمانينيات، إذ دعوته لتقديم محاضرة ثقافية ضمن نشاط الجمعية، فأتى بمحبة ندية خصيصاً من الشحر إلى المكلا، وكان لمحاضرته صدى عام، وصدى خاص في نفسي، فلقد وجدتني أمام أستاذ في ما لا يتلقاه المرء على مقاعد الدرس في الجامعة. ويوازي اشتعال ذلك اللقاء في الذاكرة آخر لقاء به في بيته قبيل وفاته بليلة واحدة، وما بين ذينك اللقاءين من حميميات ملاحية مبهجة رغم هذا الأسى الثقيل على النفس الذي تجدده الذكرى، كل عام، فتنكأ ما نحاول التربيت على كتفه من شجن يستولد شجناً مستولداً شجناً».