تضطرب الساحة السياسية الجنوبية بشكل متصاعد هذه الأيام، تحت تأثير حُمّى الإحتفالات الجماهيرية في أكثر من ساحة بعدد من المحافظات الجنوبية، بمناسبة الذكرى الـ54 لثورة 14 أكتوبر، في سابقة هي الأولى للقوى السياسية والثورية الجنوبية، وللعوام من الناس جميعاً، منذ انطلاق الثورة الجنوبية الثانية (الحراك الجنوبي) قبل أكثر من عقد من الزمن، بل منذ الذكرى الأول لهذه المناسبة عام 63م.
انتهز الجميع، وهم في غمرة التجاذبات السياسية الحادة بأبعادها وولاءاتها المحلية والإقليمية، هذه المناسبة؛ ليس ليحتفوا بها ويستلهموا منها عبرتها وتجربتها، بل ليثبت كل طرف وفصيل وتيار أنه الأكثر حضوراً في الساحة وأن اليد الطولى له بكل الأحوال، وأن الآخر سواءً كان قوة محلية صرفة أو قوة سياسية مرتهنة للآخر ليس أكثر من تيار هزيل وظاهرة صوتية فقط.
المشهد السياسي اليوم في الجنوب يتشكل على شكل جدارية فسيفسائية ضخمة تتكاثر حباتها يوماً إثر يوم مع تزايد اللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين على الساحة، وتتضاعف معها الولاءات والاستقطابات الداخلية والخارجية، والتي شكل ويشكل المال السياسي محورها، لتصب في مجملها في خانة الخطر على المستقبل السياسي للجنوب وقضيته الوطنية، التي تعصف بها الأنواء وتستبد بها الأدواء بقسوة.
لم نر في السنين الماضية، وعند كل احتفالية بهذه المناسبة، هذا الكم الهائل من التنافر الجنوبي الجنوبي، وهذه الحالة من التغذية الخطيرة ذات البعد الجهوي والسياسي والفكر المذهبي المكشر عن أنيابه، حتى في ذروة القمع الذي تعرض له نشطاء هذه الثورة (الحراك الجنوبي) طيلة عمرها.

فحين كانت الخلافات والتباينات السياسية في صفوف مكوناتها وشخصياتها، ظلت مثل هذه المناسبات (ثورة 14 أكتوبر وعيد الإستقلال الوطني في 30 نوفمبر) مناسبات يجتمع حولها الجميع من الفرقاء، كمناسبات وكساحات احتفالات يتلاشى فيها ولو مؤقتاً ًضباب التباينات، ويتبخر فيها جليد الخلافات، على منطقية تلك الخلافات، والتي كان جلها بنكهة وطنية جنوبية خالصة، خالية من دهون الإرتهان للآخر حتى الإنبطاح، وكولسترول الذاتية المترزقة على فتات الموائد المتنوعة.
لم يعد في الجنوب ثمة قوة سياسية ثورية أو شخصية مستقلة تمتلك قرارها وإرادتها السياسية إلا من رحم ربي. فقد سادت واتسعت رقعة الفرز السياسي على أساس الولاء والتبعية لسلطة الرئيس هادي التي تستميت للإجهاز على القضية الجنوبية تحت مقصلة اسمها مشروع الستة أقاليم، والمال السياسي يفعل مفعول السحر لتنفيذ هذه المهمة. أما التبعية لقوى إقليمية، ومنها دولة الإمارات، بشكل أعمى، أو قل هذه العلاقة – إن شئنا أن نكون أكثر تسامحاً – التي تربط بعض القوى والرموز الجنوبية بأبوظبي، فلا تحكمها، بالنظر إلى تعاطي الأخيرة بشكل ضبابي شديد مع القضية الجنوبية، ضوابط عادلة وضامنة للجانبين.
وهذا الموقف الإماراتي حيال الجنوب يظل، برغم كل ما يقال عن أنه داعم، ضبابياً حتى الظلمة، والسبب هو رخاوة الطرف الجنوبي المرتعش بين يدي طويل العمر. فيكفي أن نتذكر أن «المجلس الإنتقالي الجنوبي»، حتى اليوم، لم يحظ باعتراف إماراتي رسمي أو شبه رسمي، ولم يتم استقبال رئيسه أو عضو منه مِن قِبل أدنى مسؤول رسمي في الخارجية الإماراتية – على الأقل حتى اليوم -، والمبرر جاهز، وهو أن الإمارات محكومة بالتزامات دولية تجاه اليمن وتجاه قرارات مجلس الأمن والمبادرة الخليجية الخاصة باليمن.
وكأن الجنوب يتبع جزر «الواق واق»، وليس جزءاً من اليمن الذي يشير إليه مجلس الأمن والمبادرة الخليجية، اللذين تتخذ منهما الإمارات ذريعة للتملص من إبداء موقف سياسي حاسم تجاه الجنوب، الجنوب الأرض والميناء والجزر والمنافذ البحرية وآبار النفط والغاز… سيظل موقف الإمارات في نظرنا كما هو، إلى أن نرى تعاطياً سياسياً جدياً وصادقاً يخلو من أساليب الفهولة السياسية. وتملصاتها.